تركَت المجزرة وراءها 1200 ضحية قُتِلوا بدم بارد، وأُخفيت تحت ستار من السرية والخوف من ردود الفعل العامة. لسنوات، بقيت قصتهم غير معروفة حتى أشعلت في النهاية ثورة أنهت نظام القذافي وأخرجت جثث الضحايا من قبورهم المخفية. تُعد "مجزرة سجن أبو سليم" واحدة من أعمق الجراح في ليبيا.
سجن الرعب
كان سجن أبو سليم معروفًا بـ"سجن الرعب" - أحد أكثر مراكز الاحتجاز شهرة ووحشية في ليبيا، وكابوسًا حقيقيًا للسجناء السياسيين والمعارضين. افتُتِح السجن عام 1984 في حي أبو سليم جنوب غرب طرابلس، وامتد على مساحة تزيد عن 30 هكتارًا. في البداية، كان يُستخدم كمخيم للشرطة العسكرية لاحتجاز السجناء العسكريين، لكنه سرعان ما أصبح مركزًا لاحتجاز المعارضين السياسيين تحت إشراف قوات الأمن الداخلي الليبية.
تزايد عدد السجناء تدريجيًا، حيث احتُجز العديد منهم دون محاكمة، وعاشوا في ظروف قاسية وتعرضوا للتعذيب الوحشي. استمروا في المطالبة بتحسين الظروف وتوفير محاكمات عادلة، لكن لم يتغير شيء حتى جاء يوم الحساب.
الموت أو الصمت
استمرت مطالب السجناء لسنوات دون استجابة، حتى ليلة 28 يونيو 1996 عندما اندلعت احتجاجات واسعة بسبب الظروف المروعة داخل السجن. تصاعد التوتر بسرعة، مما دفع السجناء إلى احتجاز اثنين من حراس السجن. ورد الحراس بإطلاق النار، مما أسفر عن مقتل ستة سجناء وإصابة 20 آخرين.
دعا السجناء بعد ذلك إلى إجراء مفاوضات مع الحكومة الليبية، مطالبين بشكل خاص بقدوم مسؤولين رفيعي المستوى يمكنهم إحداث تغيير حقيقي. استجابت السلطات الليبية في البداية، وأرسلت وفدًا برئاسة عبد الله السنوسي، رئيس الاستخبارات وصهر القذافي. التقى الوفد بخمسة سجناء عرضوا مطالبهم، والتي شملت:
- إنهاء التعذيب وتقديم محاكمات سريعة للمحتجزين.
- تحسين خدمات الغذاء والرعاية الصحية.
- السماح بزيارة العائلات، التي كانت ممنوعة منذ سجنهم.
عبد الله السنوسي، رئيس جهاز الاستخبارات الليبي خلال عهد القذافي - رويترز |
وافق السنوسي على معظم المطالب، لكنه رفض إجراء المحاكمات حتى يتم الإفراج عن الحراس. امتثل السجناء، وتم نقل حوالي 120 سجينًا مريضًا خارج السجن. كان السجناء الباقون يأملون أن يكون هذا بداية الحل بعد سنوات من المعاناة، لكن الحقيقة كانت أكثر ظلامًا.
المجزرة
في صباح يوم 29 يونيو، تم إخراج السجناء من زنازينهم إلى ساحة السجن. في الساعة العاشرة صباحًا، فتحت رشاشات النار عليهم لمدة ساعة كاملة، مما أسفر عن مقتل المئات. تبع ذلك عمليات قتل أخرى على مدار اليومين التاليين، مما أسفر عن مقتل أكثر من 1200 شخص. كان عبد الله السنوسي هو الشخصية الرئيسية المسؤولة عن المجزرة.
أخفت الحكومة الليبية المجزرة، وتشير التقارير إلى أن الجثث نُقلت في شاحنات لحوم ودفنت في مقابر جماعية حول طرابلس. اعترف بعض المتورطين في التستر بأن بعض الجثث أُحرِقت وتُناثرت رمادها في البحر. لسنوات، بقيت المجزرة طي الكتمان.
أين السجناء؟
في عام 2001، بدأ نظام القذافي بإبلاغ عائلات الضحايا بوفاة أقاربهم دون تقديم تفاصيل أو إعادة الجثث، مكتفيًا بإصدار شهادات وفاة. أدى ذلك إلى تصاعد المطالب بالحصول على إجابات. تدخلت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، والتقت ببعض عائلات الضحايا. أفادت إحدى العائلات بأنها كانت تجلب الطعام والملابس للسجن كل أسبوع، دون أن تعرف أن قريبها قد توفي قبل سنوات. بعد مفاوضات طويلة، مُنحت "هيومن رايتس ووتش" أخيرًا الإذن بزيارة السجن في عام 2005.
عائلات ضحايا مجزرة أبو سليم في ليبيا |
ورغم ذلك، استمر القذافي في نفي المجزرة، ولم تسلم الحكومة جثث الضحايا إلى عائلاتهم، مما أجج الاحتجاجات في عامي 2009 و2010، حيث طالب البعض بإجراء تحقيق كامل وتشريح الجثث لتحديد أسباب الوفاة.
عرض نظام القذافي تعويضًا لعائلات الضحايا، يتراوح بين 98,000 دولار للضحايا غير المتزوجين و106,000 دولار للضحايا المتزوجين، مقابل عدم رفع دعاوى قضائية ضد الدولة. لكن معظم العائلات رفضت العرض، مطالبة بالعدالة بدلًا من المال.
شرارة الثورة
أدت سنوات من المطالبة بالعدالة في النهاية إلى فتح تحقيق واسع النطاق، وعُقدت جلسات محاكمة لعدة متهمين. كان المحامي الليبي فتحي تربل، الذي فقد أخًا وابن عم وصهرًا في المجزرة، هو المحامي الذي يمثل عائلات الضحايا.
ومع ذلك، في ليلة 15 فبراير 2011، قبل يومين فقط من بدء الاحتجاجات الليبية المخطط لها، تم اعتقال تربل. أدى اعتقاله إلى إشعال شرارة الثورة الليبية، مما أجبر النظام على إطلاق سراحه. وبعد ذلك بوقت قصير، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء ليبيا، مما أدى إلى سقوط نظام القذافي.
القضية لا تزال مفتوحة
لا تزال قضية أبو سليم غير محسومة حتى اليوم، حيث لا يزال عبد الله السنوسي محتجزًا في موريتانيا. وتبقى المجزرة حية في ذاكرة الليبيين، رغم سقوط القذافي. والسؤال الذي يظل قائمًا: هل ستتحقق العدالة أم ستظل القضية عالقة إلى الأبد؟