في أواخر عام 1991، وبعد بضعة أشهر من وصول العقيد خليفة حفتر إلى الولايات المتحدة إثر انشقاقه عن جيش القذافي، كان قد تُرك أسيرًا من قبل القوات التشادية بعد حرب 1987.
خلال ذلك الصراع، قاد حفتر القوات الليبية في تشاد في محاولة أخيرة من نظام القذافي للسيطرة على شريط أوزو الغني بالموارد. لكن حفتر ارتكب عدة أخطاء أدت إلى أسره من قبل القوات التشادية مع 400 جندي.
أنكر القذافي وجود أي قوات ليبية في تشاد، وادعى عدم معرفته بحفتر، قائلاً بشكل شهير: "هل لدينا جندي يُدعى حفتر؟ هل هو شرطي أو ماذا؟". وعلى الرغم من إنكار القذافي، فقد ساعدت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) حفتر، وتعاون حفتر مع المنفيين الليبيين، بما فيهم زعيم المعارضة محمد المقريف، الذي ساعده في تجنيد وتدريب حوالي 1200 ليبي في تشاد بهدف الإطاحة بالقذافي.
الانتقال إلى الولايات المتحدة
لكن الخطة تأجلت بسبب انقلاب عسكري في تشاد أطاح بالرئيس حسين حبري وكشف المؤامرة للإطاحة بالقذافي. أدى ذلك إلى طرد حفتر وجنوده من تشاد، ونقلهم إلى الولايات المتحدة بترتيب من الـ CIA.
في فرجينيا، أسس حفتر معسكرات لتدريب قواته على عمليات الكوماندوز. وبعد عامين، حان موعد الانقلاب الذي قاده حفتر من الأراضي الأمريكية، حيث كان يوجه عملياته داخل ليبيا. إلا أن الانقلاب فشل، وتم القبض على منفذيه من قبل الجيش الليبي، حيث أُعدم البعض وسُجن آخرون، بمن فيهم الحليف الحالي لحفتر، الجنرال عبد الرزاق الناظوري.
ولكن الصدمة الكبرى كانت في مقابلة مع محمد المقريف، الرئيس السابق للمؤتمر الوطني الليبي وأحد حلفاء حفتر السابقين، عندما سأله صحفي:
"هل تعتقد الآن، من أجل الحقيقة والتاريخ، أن حفتر هو من أبلغ القذافي؟"
كانت إجابته: "نعم، ليس لدي أي شك الآن".
خيانة حفتر
خان حفتر رجاله وسلّمهم للقذافي، وحُكم عليه بالإعدام غيابيًا. اختبأ حفتر وأصبح منسيًا بالنسبة للأمريكيين حتى أعاد الربيع العربي تسليط الضوء على ليبيا. عاد حفتر إلى الظهور وحصل على دعم عسكري كبير من مصر والإمارات وروسيا وفرنسا، ليصبح واحدًا من أقوى وأغنى الشخصيات في ليبيا.
مصادر الثروة
كيف حصل حفتر على ثروته؟ وكيف ساهم الصراع المستمر في ليبيا في زيادة ثروته الهائلة وثروة عائلته؟ خلال خدمته العسكرية، لم تكن ثروة حفتر واضحة. كان ضباط الجيش الليبي يحصلون على رواتب متواضعة مع بعض الامتيازات مثل السيارات الجديدة والمكافآت.
بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة، عاش حفتر وعائلته في عقار قدمته له الـ CIA. وحين حاول القذافي التصالح معه عبر منحه فيلا في مصر، رفض حفتر العودة مدعيًا أنها فخ، على الرغم من أنه سمح لأبنائه بالعيش فيها وتلقي راتب شهري قدره 15,000 دولار من نظام القذافي.
خلال إقامته في أمريكا التي استمرت أكثر من عقدين، جمعت عائلة حفتر 17 عقارًا بقيمة إجمالية حوالي 8 ملايين دولار. ومع ذلك، كانت هذه الثروة ضئيلة مقارنة بالسيطرة على الموارد الاقتصادية لدولة بأكملها، وهو ما كان يسعى حفتر للهيمنة عليه.
الانقلاب على الشرعية
عندما عاد حفتر إلى ليبيا، أسس ما سماه "الجيش الوطني الليبي" وأعلن عن انقلابه على البرلمان الليبي في طرابلس. ثم توجه إلى المنطقة الشرقية من برقة، التي فضلها منذ أيام حرب تشاد، وأطلق عملية سماها "عملية الكرامة" ضد ما وصفه بالإرهابيين والجماعات المتطرفة.
استخدم حفتر محاربة الإرهاب كذريعة لتوسيع نفوذه على مناطق واسعة. واستغل الانقسام بين البرلمان الذي يقع في طبرق والمؤتمر الوطني في طرابلس، وأنشأ مصرفًا مركزيًا ومؤسسة نفط وطنية في الشرق. لكن رغم ذلك، فشل في إقناع الحكومات والشركات الدولية بالتعامل مع هذه المؤسسات بدلًا من تلك الموجودة في غرب ليبيا.
بدلًا من ذلك، ركز حفتر على السيطرة على منشآت النفط والغاز، بدءًا من تلك الموجودة في شرق ليبيا، ثم تحرك جنوبًا للسيطرة على حقول الشرارة والفيل، وعاد لتأمين منطقة الهلال النفطي وموانئها.
السيطرة على الاقتصاد الليبي
كانت محاولات حفتر لتهريب النفط الليبي ناجحة إلى حد كبير، حيث كانت المؤسسة الوطنية للنفط التابعة له مسؤولة عن الجزء الأكبر من النفط المهرب، والذي يُقدر بأكثر من ملياري دولار سنويًا. وتجاوزت عمليات النهب النفط لتشمل جميع الأنشطة الاقتصادية الليبية، والتي يسيطر عليها حفتر الآن من خلال "هيئة الاستثمار العسكري".
أنشأ حفتر هذه الهيئة لإدارة المشاريع الزراعية والمستشفيات والبنية التحتية، بل وحتى إدارة النفايات. بدأت الهيئة عملها الحقيقي فقط بعد تعيين محمد المدني الفخري، وهو عقيد سابق في القوات الجوية ووالد زوج ابنه صدام، على رأسها. ويعكس هذا التعيين المحسوبية التي يمارسها حفتر في الشرق.
منح حفتر الهيئة سلطات اقتصادية غير محدودة، وطلب من وزير الاقتصاد والصناعة في الحكومة غير المعترف بها في الشرق إصدار قوانين تضمن حقوقها الحصرية لتصدير المعادن الخردة وتوريد الوقود للسفن في الموانئ الليبية.
وفي نفس الشهر، طلب حفتر نقل ملكية 96 مشروعًا في المناطق التي يسيطر عليها إلى الهيئة، مدعيًا أن هذه المشاريع أنشئت في الأصل كمرافق للجيش الليبي وتعرضت للنهب بسبب التدهور الأمني، وأن بعض مديري المشاريع طلبوا نقلها.
الهيئة ومؤسساتها معفاة من الضرائب والجمارك، وتمتلك صلاحيات مصادرة الممتلكات العامة والخاصة بأثر رجعي في الشرق. إضافة إلى ذلك، يسيطر حفتر على طرق التهريب الليبية، وهي شبكة حيوية كانت تُستخدم سابقًا من قبل القذافي لإدارة القبائل والمجموعات العرقية وشراء ولائهم، بعائدات سنوية تتراوح بين مليار و1.5 مليار دولار.
ازدهرت أنشطة التهريب، خصوصًا في الجنوب، حيث تشكل حوالي 90% من اقتصاد المنطقة بالنسبة لقبائل التبو والطوارق التي تسيطر على هذه الطرق، وبعض أفرادها يخدمون في قوات حفتر.
يُسيطر حفتر الآن على ثلثي مناطق إنتاج النفط والغاز في ليبيا، وخمسة من أصل ستة موانئ لتصدير النفط، وأربعة من أصل خمسة مصافٍ.
على الرغم من عدم قدرته على تصدير النفط بطرق قانونية ورسمية، فإن حفتر يستطيع خنق الاقتصاد الليبي كلما أتيحت له الفرصة، مما يضع حكومة طرابلس تحت اختبار مستمر في قدرتها على التفاوض. وفي الوقت نفسه، يسعى حفتر إلى إيجاد وسائل بديلة لزيادة عائداته المالية وتنمية ثروته الضخمة المستمدة من الموارد الطبيعية.
مافيا عائلة حفتر
تمتد هذه الثروة إلى عائلته، حيث يتمتع أبناؤه بحصص كبيرة. فعلى سبيل المثال، يتولى ابنه خالد مسؤولية الإمدادات والسلع في هيئة الاستثمار العسكري، بينما يتولى ابنه صدام تجارة النفط والخردة مع مصر وتركيا، ويُتهم أيضًا بسرقة أموال مصرف ليبيا المركزي في بنغازي، إضافة إلى اتهامه بالتعذيب والقتل.
Haftar's Family Mafia |
ويُعرف أفراد عائلته بنمط حياتهم الفاخر سواء داخل ليبيا أو خارجها. على سبيل المثال، يمتلك صدام حفتر خيلين عربيين تزيد قيمة كل منهما عن مليوني دولار، كما أثار حفل زفافه العام الماضي جدلًا عندما قدّم سيارات فاخرة وهواتف جوالة للشعراء الذين امتدحوه.
حفتر نفسه أوقف شركة علاقات عامة أمريكية كانت مكلفة بتحسين صورته لدى الإدارة الأمريكية مقابل مليون دولار، وسبق أن وقع صفقة بملايين الدولارات مع شركة إسرائيلية لإدارة حملته الانتخابية.
في حين يصور حفتر نفسه على أنه منقذ ليبيا، تشير أفعاله وأفعال عائلته إلى العكس تمامًا. فهم يتجاهلون أن هذه الثروات، التي جُمعت بدون أساس قانوني وعلى حساب دماء الليبيين، هي في الأصل ملك للشعب الليبي وحده، الذي يجب أن يقرر مصيره بنفسه.